الرسالة الخامسة عشرة

ياسين الحاج صالح

9 كانون الأول 2019

الرسالة الخامسة عشرة من سلسلة رسائل يكتبها ياسين الحاج صالح لزوجته سميرة الخليل، المخطوفة في دوما منذ مساء يوم 9/12/2013، يحاول فيها أن يشرح لها ما جرى في غيابها.

«شايفة القمر شو حلو؟» أسألك بينما نعود إلى البيت ليلاً، نقطع المسافة بين موقف السرفيس الأخير وبيتنا في ضاحية قدسيا: إنتِ أحلى من القمر! أُسارع للإجابة على سؤالي قبل أن تسبقيني. في مرات أخرى لا تتركينني أكمل السؤال، تكملينه أنت فوراً، بينما تعضين على شفتك السفلى ضاحكة، وتغمزين. تترفقين بالمواهب الغزلية المتواضعة لشريكك، التي تكاد تنتهي عند هذا الحد.

تقولين: باي حبوووووب! وأنت خارجة؛ وانبسط، حبوب! بينما أتصل بك لأخبرك أني قد أتاخر في العودة إلى البيت ليلاً؛ أو: لا، حبيبي ما يلزم شي! حين أتصل وأنا راجع لأسألك إن كان يلزمك/ يلزمنا شيء. أنت قادرة على بث الحب في كل شيء يا سمور. بكرمٍ تفعلين. تفيضين بالحب، وكم يدفئ قلبي أن هذا الينبوع لم يكف عن التدفق في نحو 13 عاماً قضيناها معاً.

تحبين القهوة من يدي. أُجهّز القهوة، وأمسح ما ينسكب منها كل مرة على الغاز، وأنوح متشكياً بينما أقوم بذلك: الحياة صعبة! تتصنعين الحزن على طريقة الأمهات، وتعلنين التضامن مع المتذمر الشاكي.

نتكلم على بعض يومياتنا، على ما يصادف من أشياء يمكن أن تُحكى، أشياء لا أهمية لكثير منها في الغالب، لكنها تصنع مجالنا الخاص. منها تهكم لا يخلو من لؤم على معارف وأصدقاء. تتذكرين السيدة اكتئاب؟ اللقب الذي أطلقناه على صديقة كانت سيماؤها مكتئبة غالباً. تتذكرين «وينكن»، اللقب الذي أطلقناه على صديق كانت أول كلمة تصدر منه حين يراكِ أو يراني هي: وينكن؟ هذا اللؤم الحميد هو من بين أشياء كثيرة أفتقدها يا سمور. أشياء خاصة، صغيرة، تساعدنا على ترتيب عالمنا المشترك.

كنت تدفعينني كي أخرج من البيت، أرى أصدقاء، «أغير جو»، أتحرك. لم يكن ما تشكين منه زوجاً يقضي معظم وقته خارج البيت، بل الزوج الذي يبحث عن ذرائع كي لا يخرج من البيت. صحيح أنه لا يتكلم كثيراً، لكنه كان يظن أن تعبيره غير الكلامي يصلك. ومما يدخل بعض البهجة على قلبه أنك كنت تقولين إنه كان يصلك.

كنتُ أنا أيضاً أدفعك كي تخرجي، تسافري، ليس إلى حمص وحدها حيث نجاة وفاطمة وإخوتك، ولكن كذلك لزيارة أصدقائنا في حلب أو اللاذقية، أو جماعتي في الرقة. لم تكوني تحبين أن تسافري وحيدة، تريدين أن نسافر معاً. لكن في مرات سفرك القليلة، وأغلبها إلى حمص، كنتُ أستوحش بعد يومين من غيابك. وبعد أن أكون ألححت عليك في السفر، أتصل لأوصيك أن تستمتعي بأيامك هناك، و... متى تعودين؟ تذكرين وقت ذهبتُ مرة لاستقبالك في الكراج وأنت عائدة من حمص؟ أخذتُ «خط سرفيس» آخر بالخطأ ووصلت متأخراً، بعد أن كنتِ غادرتِ إلى البيت في ضاحية قدسيا. وفي طريق عودتي خائباً مررت إلى مكتب الشركة الأهلية لأستلم طرداً مرسلاً إليَّ هناك، ولم أتذكر أن اليوم كان جمعة إلى أن وجدت المكتب مغلقاً. حين قرر شارد الذهن أن يفعل شيئاً طيباً تعب ولم يُفلِح. لكنك كالعادة تُطيِّبين الأمر، فلا يخيب الأخرق أبداً.

في غيابك أترجح بين وحدة أستوحش فيها وبين اختلاط يحدث أن أرغب بالفرار منه عائداً إلى صومعتي. أفكر في أن العائلة هي الحل لهذا الترجح، أنها الجزء الصغير من المجتمع الذي نكون فيها لوحدنا ومعاً في الوقت نفسه، الجزء الذي يحمي الخصوصية ويلبي الحاجة الاجتماعية معاً. كنت أحدّثك عن أشياء أو عن أشخاص، وأدرك أن من حقي في حضورك أن أخطئ وأتجاوز، أن أكون جائراً وأن أتساهل، وأن أتردد وأناقض نفسي. بعد قليل أغير رأيي، أتراجع، كأنما احتجت لأن أقوله لك كي أجرب احتماله قبل أن أتراجع عنه. كنت أقرأ تعابير وجهك: غير راضية عمّا تسمعين، تعترضين، وتجدين دائماً ألطف طريقة لتسهيل تراجعي. العائلة مكان للّوم المحب أيضاً، ضمير إضافي. هل كنت أقوم بدور مماثل لك؟ أرجو ذلك، وأظنه. كنا نساعد بعضنا على التغلب على انفعالاتنا الأولى.

كنتِ عائلتي يا سمور وكنتُ عائلتك، واحة من اثنين، حل للوحشة وللحاجة إلى الخصوصية معاً. ضميرين لبعضنا.

تجرحني وأعاقب نفسي بتذكرها في كل وقت عبارة كان يصادف أن تقوليها للجارة وقت كانت تدق بابنا لتطلب منك أن تنضمي إليها في شرب المتة: ياسين بزيارة عندي! كان هذا تعليقاً على أن المذكور يقضي الوقت بالأيام في غرفته، منشغل الذهن، يعمل ولا يكاد يتكلم.

ولا يكاد يقول كلاماً عاطفياً. أَنحدرُ من قوم لا يجيد الرجال بينهم التعبير عما في قلوبهم. ليس حتماً لأننا قساة يا سمور، أنت تعرفين ذلك جيداً، ولكن لأننا نستر هشاشة دواخلنا بالصمت، لأننا نخاف ما يتضمنه الحب من انكشاف. حتى أننا صرنا نخاف من الحب ومن النساء فعلاً. فهنَّ مطلّعات على ضعفنا الذي لا يمكن إخفاؤه عنهن إلى النهاية، ولا يبدو أنهن يحمين قلوبهن مثلما نفعل. لاحظت مراراً وتكراراً أن النساء، في بيئتنا وغيرها، أشجع من الرجال، وليس في الحب وحده.

في غيابك تتوزع حياتي بين وقت للعمل أكون فيه وحيداً، وحياة اجتماعية بين أصدقاء ومعارف، ثم حياتي معك. هذه حين أكون وحيداً، وهو الغالب، لكنها تختلط بالعمل وحتى بالحياة الاجتماعية والعامة أحياناً. أتدبر أمر مزيج الحب والحزن حين تكونين معي وأنا وحيد. أتدبره بمشقة أكبر حين لا أكون وحيداً، وخاصة حين يحدث أن أتكلم عنك أمام جمع.

ولا تكون الوحدة مُكئِبة أكثر مما حين أتسوّق، أشتري طعاماً ولوازم لبيتي. كأن ما في هذا الفعل من تعلق بالحياة يشحذ شعوري بالذنب في غيابك. أغصُّ مثل أمي حين يكون أحد أبنائها غائباً: كانت لا تستمتع بطعام أو شراب، تغص فعلاً. وأحيانا يفرض الاكتئاب حضوراً ثقيلاً. لكن لا تشغلي بالك يا سمور. لم أَصِر «السيد اكتئاب»، مثل صديقتنا المختفية من سنين. اكتئابي ظل للاستماتة. في غيابك مستميت أكثر من قبل. أفكر في أنه تتلاقى في الاستماتة الشجاعة والحزن، حزن لهول خسائرنا. نقاتل ونحن نبكي. يعرف المستميت أنه لن يتوقف. يجد في داخله، وفي صورتك في خياله، وفي أصدقائه، من الطاقة ما يساعده على الاستمرار.

أرجو لاسمك أن يُحيل إلى كفاح بطولي ومستميت، أن يكون رمزاً لصراع من أجل الحرية والعدالة والكرامة، أن يكون الحزن مجرد لحظة في صراع شجاع وكريم. وأن تكوني غائبة هذا الغياب الأسطوري، فهذا يجعل من قضيتنا قضية معرفة وحقيقة، فوق كونها قضية عدالة وحرية. تعرفين أن ما كنتُ أطلبه لنفسي هو المعرفة أكثر من أي شيء آخر. بعد غيابك صرت أتشكك في حكمة ذلك. ما يُطلَب هو الكرامة والحياة الكريمة وفعل الخير. هذا يُفترض أن يكون غرضَ المعرفة ومعناها كذلك. أن أبحث عنك، أن أعرف عنك، يلبي هذا المعنى، يمنحه الدافع الأقوى، ويجعل المعرفة فعل عدالة وكرامة. فيما مضى، ربما أخذني طلب المعرفة بعيداً، جعلني لا أَقَرُّ على حال. لكن طلب المعرفة نفسه هو ما صرتِ أنتِ اسماً له يا سمور. صار اسمك اسماً لما أريد أن أعرف. أنت الغائبة المجهولة التي تُطلَب معرفتها.

ربما تُخلِّص المعرفة طالبها أو تدمِّره، لكن كابوس من يريد أن يعرف هو ألّا يعرف.

ألّا يعرف أبداً.

الجمهورية